تلك هي الحقيقة التي لا ممارة فيها، ولا مجال لتكذيبها، أن يكون للكافرين
والعصاة من المسلمين نصيبٌ من أهوال الحياة البرزخيّة وآلامها، جزاءً من
ربّك على الذنوب والمعاصي التي ارتكبوها، فنعوذ بالله أن نكون منهم.
ولعذاب القبر أسباب بيّنها الله ورسوله لتحذير العباد من الوقوع فيها، نُجملها فيما يلي:
أولاً: الكفر بالخالق وجحوده، والكفر كما هو معلومٌ رأس كل خطيئة وأعظم ما
عصي الله تعالى به، ولئن كانت كلّ الذنوب داخلةٌ تحت المشيئة بين العفو
والمجازاة، فإن الكفر لا يغفره الله أبداً مهما قدّم صاحبه من الأعمال
الحسنة، وفي القرآن الكريم:
{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما} (النساء:48)، ومقتضى ذلك أن يكون للكافر نصيبٌ من العذاب،
ومبدأ ذلك حاصلٌ في القبر، وقد دلّت الآيات على هذا المعنى بخصوصه، قال تعالى:
{ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق* ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد} (الأنفال:50-51)، وهذا العذاب المذكور في الآية من ضرب الوجوه والأدبار
دون العذاب الأكبر يوم القيامة وقبله، يؤيّده ما جاء في الآية الأخرى:
{فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم}(محمد:27)، يقول الإمام
ابن كثير: "كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم وتعصت الأرواح في أجسادهم، واستخرجتها الملائكة بالعنف والقهر والضرب.
وفي الحديث الشهير المروي عن
البراء بن عازب رضي الله عنه، والذي يبين فيه حال العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، وفيه:
(فينادي
مناد من السماء أن كذب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى
النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه) رواه
أحمد، فأثبت الحديث تسبّب الكفر بعذاب القبر .
وعن
زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بينما
النبي -صلى الله عليه وسلم- في حائط لبني النجار على بغلة له ونحن معه، إذ
حادت به فكادت تلقيه، وإذا أقبرُ ستة أو خمسة أو أربعة فقال:
(من يعرف أصحاب هذه الأقبر؟) فقال رجل: أنا، قال: (فمتى مات هؤلاء؟) قال: ماتوا في الإشراك، فقال: (
إن هذه الأمة تبتلى في قبورها، فلولا أن لا تدافنوا، لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه). ثم أقبل علينا بوجهه، فقال:
(تعوذوا بالله من عذاب القبر) قالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر. رواه
مسلم.
والحديث يرينا أن الدابّة التي ركب عليها النبي –صلى الله عليه وسلم- أحسّت
بالعذاب الذي يتعذّب به المشركون حتى كادت أن تُلقي النبي عليه الصلاة
والسلام من على ظهرها لشدّة نفورها وانزعاجها.
ثانيا: النفاق، والعمدة في إثبات ذلك قوله تعالى:
{ وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} (التوبة:101)، وأغلب ما ورد من أقوال المفسّرين أن إحدى المرّتين هو عذابهم في البرزخ قبل الآخرة، كما ورد عن
قتادة وابن جريح وأبي مالك وغيرهم.
ثالثا: عدم التنزه من البول والنميمة، فعن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- على قبرين، فقال:
(أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)، فدعا بعسيبٍ رطب فشقه باثنين، ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً ثم قال:
(لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا) متفق عليه واللفظ
لمسلم،
والمعنى أن أحدهما كان لا يستر جسده ولا ثيابه من مماسة البول فيصيبه
شيءٌ منه، ثم هو يٌصلّي بثيابٍ نجسه، فكان تركه لتمام الطهارة الحسيّة
سبباً لبطلان صلاته، ولذلك استحقّ العذاب في القبر.
وأما الآخر فقد عُذّب بسبب النميمة، ولا عجب فالنميمة بما فيها من نقلٍ
للكلام بين الناس على جهة الإفساد سببٌ لانعدام الثقة في المجتمع، وكم
قُطِّعت من أرحام، وأثيرت من ضغائن، وهدّمت من بيوت، واشتعلت من فتن، بسبب
هذه البليّة.
رابعاً: الغيبة: ورد فيها حديث
أبي بكرة رضي
الله عنه قال: بينا أنا أماشي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو آخذ
بيدي، ورجلٌ عن يساره، فإذا نحن بقبرين أمامنا، فقال رسول الله -صلى الله
عليه وسلم-:
( إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، وبلى، فأيكم يأتيني بجريدة؟) فاستبقنا، فسبقته، فأتيته بجريدة، فكسرها نصفين، فألقى على ذا القبر قطعة، وعلى ذا القبر قطعة، وقال:
(إنه يهون عليهما ما كانتا رطبتين، وما يعذبان إلا في البول، والغيبة ) رواه
أحمد،
ويُحتمل أن تكون هذه الواقعة تختلف عن الواقعة السابقة، والتي أخبر فيها
النبي عليه الصلاة والسلام أن صاحب القبر عُذّب بسبب النميمة، لكن الظاهر
اتحاد القصّة كما ذكر الحافظ
ابن حجر.
الخامس: الغلول، وهو ما أخفي من الغنيمة عن القسمة، جاء فيه حديث
أبي هريرة رضي
الله عنه، قال: افتتحنا خيبر، ولم نغنم ذهباً ولا فضة، إنما غنمنا البقر
والإبل والمتاع والحوائط، ثم انصرفنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
إلى وادي القرى، ومعه عبدٌ له يقال له مدعم، فبينما هو يحط رحل رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- إذ جاءه سهم عائر، حتى أصاب ذلك العبد، فقال الناس:
هنيئاً له الشهادة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(بل، والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أصابها يوم خيبر من المغانم، لم تصبها المقاسم، لتشتعل عليه نارا) فجاء رجل حين سمع ذلك من النبي -صلى الله عليه وسلم- بشراك أو بشراكين،
فقال: هذا شيء كنت أصبته، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
(شراك أو شراكان من نار) رواه
البخاري،
والشملة هي الكساء الذي يلتحف به الرجل، والشراك هو السيور الذي يشدّ به
النعال، والمقصود أن الحديث بيّن أن الغلول سببٌ من الأسباب المستوجبة
للعذاب في القبر، ولذلك أوردها الإمام
البيهقي في كتابه المتعلّق بإثبات عذاب القبر، وبوّب على الحديث بقوله : " باب ما يخاف من عذاب القبر في الغلول".
سادساً: عدم نصرة المظلوم، عن
ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:
(أٌمر
بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة، فلم يزل يسأل ويدعو حتى
صارت جلدة واحدة، فجلد جلدة واحدة، فامتلأ قبره عليه ناراً، فلما ارتفع عنه
قال: علام جلدتموني؟، قالوا: إنك صليت صلاة بغير طهور, ومررت على مظلوم
فلم تنصره) رواه
الطحاوي في مشكل الآثار، وصدق الإمام
القسطلاني إذ قال: " إن كان هذا حال من لم ينصره، فكيف من ظلمه؟".
سابعا: الكبر والخيلاء، خصوصاً إذا كان في المشية واللباس الطويل ونحوهما: ودليله ما رواه
عبدالله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال :
(بينما رجل يجر إزاره من الخيلاء خُسف به، فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة ) راوه
البخاري، وحديث
أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً:
(بينا رجل يتبختر في حُلّة، معجب بجمّته –أي بشعره-، قد أسبل إزاره، إذ خسف الله به، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة) رواه
مسلم،
والمعنى أنه يُخسف به في القبر ويغوص في باطن الأرض بحركةٍ تُحدث جلبةً
وأصواتاً لا يسمعها البشر، ويظلّ على هذه الحال من العذاب والخسف إلى يوم
القيامة.
ثامناً: الكذب، ففي حديث
سمرة بن جندب رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال :
(..فانطلقنا،
فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلّوب من حديد، وإذا هو
يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى
قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما
يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل
ما فعل المرة الأولى) قلت:
(سبحان الله! ما هذان؟) فكان الجواب كما في آخر الحديث:
(إنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق) رواه
البخاري ومعنى يشرشر : أي يقطع، والشدق: هو جانب الفمّ.